الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (45- 50): {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}وقوله سبحانه: {إِنَّ المتقين فِي جنات وَعُيُونٍ ادخلوها بِسَلامٍ...} الآية: ال {سلام}؛ هنا: يحتمل أن يكونَ السَّلامة، ويحتمل أن يكون التحيَّة، وال {غِلٍّ}: الحقْد، قال الداووديُّ: عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم...} الآية، قال: «إِذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ الصِّرَاطِ، حُبِسُوا عَلَى صِرَاطٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ بِمَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا، أُذِنَ لَهُمْ في دُخُولِ الجَنَّةِ، وَاللَّهِ، لأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الجَنَّةِ مِنْ مَنْزِلِهِ في الدُّنْيَا» انتهى.و{سُرُرٍ}: جمع سرير، و{متقابلين}: الظاهر أن معناه: في الوجوه، إِذ الأسرَّة متقابلةٌ، فهي أحْسَنُ في الرتبة.قال مجاهد: لاَ يَنْظُرُ أَحَدُهُمْ في قفا صاحبه، وقيل غير هذا مما لا يعطِيهِ اللفْظُ، و{نَصَبٌ}: التعب، و{نَبِّئْ}: معناه: أعْلِم.قال الغَزَّالِيُّ رحمه اللَّه في منهاجه: ومن الآيات اللطيفة الجامعةِ بَيْنَ الرجاءِ والخَوْفِ قولُهُ تعالى: {نَبِّئ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم}، ثم قال في عَقِبَهُ: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم}؛ لئِلاَّ يستولي عَلَيْكَ الرجاءِ بِمَرَّة، وقوله تعالى: {شَدِيدِ العقاب} [غافر: 3]، ثم قال في عقبه: {ذِي الطول} [غافر: 3]، لَئِلاَّ يستولي عَلَيْكَ الخوف، وأَعْجَبُ من ذلك قَولُهُ تعالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 30]، ثم قال في عَقِبَهُ: {والله رَءوفٌ بالعباد} [آل عمران: 30]، وأعجَبُ منه قولُهُ تعالَى: {مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب} [ق: 33]، فعلَّق الخشية باسم الرحمن، دون اسْمِ الجَبَّار أو المنتقِمِ أو المتكبِّر ونحوه، ليكون تخويفاً في تأمينٍ، وتحريكاً في تسكينٍ كما تقولُ: أَما تخشى الوالدةَ الرحيمة، أمَا تخشى الوالِدَ الشَّفِيقَ، والمراد من ذلك أنْ يكونَ الطَّريقُ عدلاً، فلا تذهب إِلى أَمْنٍ وقنوطٍ جعلنا اللَّه وإِيَّاكم من المتدبِّرين لهذا الذكْرِ الحكيمِ، العامِلِينَ بما فيه، إِنه الجَوَادُ الكَريم انتهى..تفسير الآيات (51- 56): {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)}وقوله سبحانه: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ...} الآية: هذا ابتداءُ قصصٍ بعدَ انصرام الغرضِ الأول، والضيف: مصدرٌ وصف به، فهو للواحدِ والاثنين والجمعِ، والمذكَر والمؤنَّث؛ بلفظٍ واحدٍ، وقوله: {إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ}، أي: فزعون، وَإِنما وَجِلَ منهم؛ لما قَدَّم إِليهم العجْلَ الحنيذ، فلم يرهم يأكُلُون، وكانَتْ عندهم العلامة المُؤَمِّنة أكْلَ الطعام؛ وكذلك هو في غابِرِ الدهْرِ أمْنَةً للنازلِ، والمنزولِ به.وقوله: {أَن مَّسَّنِيَ الكبر}، أي: في حالةٍ قد مسَّني فيها الكِبَر، وقول إِبراهيم عليه السلام: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}: تقرير على جهة التعجُّب والاستبعاد، لكبرهما، أو على جهةَ الاحتقار وقلَّة المبالاة بالمَسَرَّات الدنيويَّة، لمضيِّ العمر، واستيلاء الكِبَر، وقولُهم: {بشرناك بالحق}: فيه شدَّة مَّا، أي: أبشرْ بما بُشِّرْتَ به، ولا تكُنْ من القانِطِينَ، والقنوطُ: أتمُّ اليأس..تفسير الآيات (57- 65): {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)}وقوله سبحانه: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون}: لفظةُ الخَطْب إِنما تستعمل في الأمور الشِّدَاد، وقولهم: {إِلا آلَ لُوطٍ}: استثناء منقطعٌ، والآلُ: القومُ الذي يَؤولُ أمرهم إِلى المضافِ إِليه؛ كذا قال سَيبَوَيْهِ؛ وهذا نصٌّ وفي أن لفظة {آل} ليست لفظة أهْل؛ كما قال النَّحَّاس، و{إِلاَّ امرأته}: استثناءٌ متصلٌ، والاستثناء بعد الاستثناء يردُّ المستثنى الثاني في حُكْم الأمر الأول، و{الغابرين}؛ هنا: أي: الباقين في العذابِ، وغَبَر: من الأضدادِ، يقال في الماضِي وفي الباقي، وقولُ الرسُل للوط: {بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ}، أي: بما وَعَدَكَ اللَّه من تعذيبهم الذي كانوا يَشْكُونَ فيه، والْقَطْعُ: الجُزْءُ من الليل.وقوله سبحانه: {واتبع أدبارهم}، أي: كن خلفهم، وفي ساقتهم، حتى لا يبقَى منهم أحد، {وَلاَ يَلْتَفِتْ}: مأخوذٌ من الالتفات الذي هو نظر العين، قال مجاهد: المعنى: لا ينظر أحد وراءه، ونُهُوا عن النظر مَخَافَةَ العُلْقَةِ، وتعلُّقِ النفْسِ بِمَنْ خلف، وقيل: لَئِلاَّ تنفطر قلوبُهُمْ من معايَنَة ما جَرَى على القَرْية في رَفْعها وطَرْحِها..تفسير الآيات (66- 77): {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)}وقوله سبحانه: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذلك الأمر}، أي: أمضيناه وحَتَمْنَا به، ثم أدخل في الكلام إِلَيْه من حيثُ أوحِيَ ذلك إِليه، وأعلمه اللَّه به، وقوله: {يَسْتَبْشِرُونَ}، أي: بالأضياف طَمَعاً منهم في الفاحِشَةِ، وقولهم: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين}: روي أنهم كانوا تقدَّموا إِليه في ألاَّ يضيفَ أحداً، والعَمْر والعُمْر- بفتح العين وضمِّها- واحدٌ، وهما مدة الحياة، ولا يستعملُ في القَسَم إِلا بالفتحِ، وفي هذه الآية شرَفٌ لنبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لأن اللَّه عزَّ وجلَّ أقسَمَ بحياته، ولم يفعلْ ذلك مع بَشَرٍ سواه؛ قاله ابن عباس.* ت *: وقال: * ص *: اللام في {لَعَمْرُكَ} للابتداءِ، والكافُ خطابٌ لِلُوطٍ عليه السلام، والتقديرُ: قالتِ الملائكةُ له: لَعَمْرُكَ، واقتصر على هذا.وما ذَكَرَهُ * ع *: هو الذي عَوَّل عليهِ عِيَاضٌ وغيره.وقال ابن العربيِّ في أحكامه: قال المفسِّرون بأجمعهم: أقْسَمَ اللَّهُ في هذه الآيةِ بِحَيَاةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم، ولا أدْرِي ما أخرجَهم عن ذكْر لُوطٍ إِلى ذكْرِ محمَّد عليه السلام، وما المانعُ أنْ يُقْسِمَ اللَّه بحياةِ لوطٍ، ويبلغ به من التشريفِ ما شاءَ، وكلُّ ما يُعْطِي اللَّه لِلُوطٍ مِنْ فضلٍ، ويؤتيه مِنْ شَرَفٍ، فلنبيِّنا محمَّد عليه السلام، ضعفاه؛ لأنه أكرمُ على اللَّه منه، وإِذا أقسم اللَّه بحياةِ لوطٍ، فحياة نبينا محمَّد عليه السلام أرْفع، ولا يخرج من كلامٍ إِلى كلامٍ آخر غيره، لم يجْرِ له ذكْرٌ؛ لغير ضرورة. انتهى.* ت *: وما ذكَرَه الجمهورُ أحْسَنُ؛ لأن الخطاب خطابُ مواجهةٍ؛ ولأنه تفسير صحابيٍّ، وهو مقدَّم على غيره.و{يَعْمَهُونَ}: معناه: يتردَّدون في حيرتهم، و{مُشْرِقِينَ}: معناه: قد دَخَلوا في الإِشراق، وهو سطوعُ ضوء الشمس وظهوره؛ قاله ابن زيد، وهذه الصَّيْحةُ هي صيحة الوجْبَة، وليستْ كصيحةِ ثمود، وأهلكوا بعد الفَجْرِ مُصْبحين، واستوفاهم الهَلاَكُ مُشْرِقين، وباقي قصص الآية تقدَّم تفسير.و{للمتوسمين}: قال مجاهد: المتفرِّسون، وقال أيْضاً: المعتبرون، وقيل غير هذا، وهذا كلُّه تفسيرٌ بالمعنَى، وأما تفسير اللفظة، فالمتوسِّم هو الذي يَنْظُرُ في وَسْمِ المعنَى، فيستدلُّ به على المعنى، وكأن معصيةَ هؤلاء أبقَتْ من العذابِ والإِهلاكِ وَسْماً، فمَنْ رأَى الوَسْم، استدل على المعصية به واقتاده النظر إِلى تجنُّب المعاصِي؛ لئلا ينزل به ما نَزَلَ بهم؛ ومِنَ الشِّعْرِ في هذه اللفظة قولُ الشاعر: [الطويل]والضمير في قوله: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ}: يحتمل أنْ يعود على المدينةِ المُهْلَكَة، أي: أنها في طريقٍ ظاهر بيِّن للمعتَبِر، وهذا تأويلُ مجاهد وغيره، ويحتمل أن يعود على الآيات، ويحتملُ أنْ يعود على الحِجَارَةِ، ويقوِّيه ما روي عنه صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّه قَالَ: «إِنَّ حِجَارَةَ العَذَابِ مُعَلَّقَةٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ مُنْذُ أَلْفَيْ سَنَةٍ لِعُصَاةِ أُمَّتِي». .تفسير الآيات (78- 84): {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)}وقوله سبحانه: {وَإِن كَانَ أصحاب الأيكة لظالمين * فانتقمنا مِنْهُمْ}: {الأَيْكَةِ}: الغَيْضة والشجَرُ الملتفُّ المُخْضَرُّ، قال الشاعر: [الطويل]وكان هؤلاءِ قوماً يسكنون غَيْضَة، ويرتَفِقُون بها في معايِشِهم، فبعث إِليهم شعيبٌ، فكفروا به، فسَلَّط اللَّه عليهم الحَرَّ، فدام عليهم سبعةَ أيام، ثم رَأَوْا سحابة، فخرجُوا، فاستظلوا بها، فأمطرتْ عليهم ناراً، وحكى الطبريُّ قال: بُعِثَ شعيبٌ إِلى أَمَّتَيْنِ، فكفرتا، فعُذِّبتا بعذابَيْنِ مختلفينِ: أهْلِ مَدْيَنَ عَذِّبوا بالصيحة، وأصْحَابِ الأيكة بالظُّلَّة.وقوله: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ}: الضميرُ في {وإنهما}: يحتملُ أنْ يعود على مدينةِ قومِ لوطٍ، ومدينة أصحابِ الأيْكَة، ويحتملُ أنْ يعود على لُوطٍ وشُعَيْبٍ عليهما السلام، أي: أنهما على طريقٍ من اللَّه وشَرْعٍ مبينٍ، والإِمامُ، في كلام العرب: الشيء الذي يهتدى به، ويؤتَمُّ به؛ فقد يكون الطريقَ، وقد يكون الكتابَ، وقد يكونُ الرَّجُلَ المقتدَى به، ونَحْوَ هذا، ومَنْ رأى عودَ الضميرِ على المدينتين، قال: الإِمام: الطريقُ، وقيل على ذلك الكتاب الذي سبق فيه إِهلاكهما، و{أصحاب الحجر}: هم ثمود، وقد تقدَّم قصصهم، و{الحِجْر}: مدينتهم، وهي ما بين المدينةِ وتَبُوك، وقال: {المرسلين}؛ من حيث يلزم من تكذيبِ رسولٍ واحدٍ تكذيبَ الجميع، إِذِ القولُ في المعتَقَدَاتِ واحدٌ.وقوله: {يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتًا آمِنِينَ}: النحت: النَّقْر بالمعاوِلِ، و{آمنين}: قيل: معناه: من انهدامها، وقيل: مِنْ حوادِثِ الدنيا، وقيل: من الموتِ؛ لاغترارهم بطول الأعمار، وأصحُّ ما يظهر في ذلك؛ أنهم كانوا يأمنون عواقِبَ الآخرة، فكانوا لا يعمَلُونَ بحسبها. .تفسير الآيات (85- 87): {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87)}{وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق}، أي: لم تخلق عبثاً ولا سدًى، {وَإِنَّ الساعة لأَتِيَةٌ}، أي: فلا تهتمَّ يا محمَّد بأعمال الكَفَرة؛ فإِن اللَّه لهم بالمِرْصاد، وقوله عَزَّ وجلَّ؛ {وَلَقَدْ آتيناك سَبْعًا مِّنَ المثاني}: ذهب ابنُ مسعودٍ وغيره إِلى أن السبْعَ المثانِيَ هنا هي السبعُ الطِّوال: البقرةُ، وآل عمران، والنساء والمائدة، والأنعام، والمص، والأنفال مع براءة، وذهب جماعةٌ من الصحابة ومَنْ بعدهم إِلى أن السبْعَ هنا: آيات الفاتحةِ، وهو نصُّ حديثِ أبي بن كَعْب وغيره.* ت *: وهذا هو الصحيحُ، وقد تقدَّم بيان ذلك أوَّل الكتاب..تفسير الآيات (88- 91): {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (91)}وقوله سبحانه: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ}: حكى الطبريُّ عن سفيانَ بْنِ عُيَيْنة؛ أَنه قال: هذه الآيةُ آمرة بالاستغناء بكتابِ اللَّهِ عَنْ جميع زينَةِ الدنْيَا.قال * ع *: فكأنه قال: آتَينَاك عظيماً خطيراً، فلا تَنظر إِلى غيْرِ ذلك من أمورِ الدنيا وزينَتِها التي مَتَّعْنا بها أنواعاً من هؤلاءِ الكَفَرَةِ؛ ومن هذا المعنَى: قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أُوتِيَ القُرْآنَ، فَرَأَى أَنَّ أَحَداً أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُعْطِيَ، فَقَدْ عَظَّمَ صَغِيراً وَصَغَّرَ عظيماً». * ت *: وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: «لا وَاللَّهِ، مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، إِلاَّ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا...» الحديث، وفي رواية: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا»، قَالُوا: وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «بَرَكَاتُ الأَرْضِ...» الحديث، وفي روايةٍ: «إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا...» الحديثَ، انتهى. والأحاديثُ في هذه البابِ أكثرُ من أنْ يحصيها كتابٌ، قال الغَزَّالِيُّ في المنهاج: وإِذا أنعم اللَّهُ عَلَيْكَ بنعمةَ الدِّينِ، فإِيَّاكَ أَنْ تَلتفتَ إِلى الدنيا وحُطَامها، فإِن ذلك منك لا يكُونُ إِلاَّ بضَرْبٍ من التهاوُنِ بما أولاكَ مَوْلاَكَ مِنْ نعمِ الدارَيْنِ؛ أَمَا تَسمعُ قولَهُ تعالَى لسيِّد المرسلين: {وَلَقَدْ آتيناك سَبْعًا مِّنَ المثاني والقرآن العظيم لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ...} الآية، تقديره: إِن من أوتي القرآن العظيمَ حُقَّ له ألاَّ ينظر إِلى الدنيا الحقيرةِ نظرةً باستحلاء، فضلاً عن أنْ يكون له فيها رغبةٌ، فليلتزم الشكْرَ على ذلك، فإِنه الكرامة التي حَرَصَ عليها الخليلُ لأَبيهِ، والمصطفى عليه السلام لعمِّه، فلم يفعلْ، وأما حطامُ الدنيا، فإِن اللَّه سبحانه يصبُّه علَى كلِّ كافرٍ وفرعونٍ وملحِدٍ وزنديقٍ وجاهلٍ وفاسقٍ؛ الذين هم أهْوَنُ خَلْقِهِ عليه، ويَصْرِفُه عن كلِّ نبيٍّ وصفيٍّ وصِدِّيقٍ وعالمٍ وعابدٍ؛ الذين هم أَعَزُّ خَلْقِهِ عليه؛ حتى إِنهم لا يكادُونَ يُصِيبُونَ كِسْرةً وخِرْقَةً، ويمنُّ عليهم سبحانه بأَلاَّ يلطخهم بقَذَرها، انتهى.وقال ابنُ العَرَبِيِّ في أحكامه: قوله تعالى: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ}: المعنى: أعطيناكَ الآخِرَةَ، فلا تنظُرْ إِلى الدنيا، وقد أعطيناك العلْم، فلا تتشاغلْ بالشهواتِ، وقد مَنَحْنَاكَ لَذَّةَ القَلْب، فلا تنظر إِلى لذة البَدَن، وقد أعطينَاكَ القرآن، فاستغن به، فمَنِ استغنى به، لا يطمَحُ بنظره إِلى زخارف الدنيا، وعنده مَعَارِفُ المولَى، حَيِيَ بالباقِي، وفَنِيَ عن الفاني. انتهى.وقوله سبحانه: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النذير المبين * كَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى المقتسمين}.قال * ع *: والذي أقولُ به في هذا: المعنَى: وقل أنا نذيرٌ، كما قال قبلك رُسُلنا، ونزَّلنا عليهم كما أنزلنا عليك، واختلف في {المقتسمين}، مَنْ هُمْ؟ فقال ابن عباس، وابن جُبَيْر: المقتسمون: هم أهْلُ الكتابِ الذينَ فَرَّقوا دينهم، وجَعَلُوا كتابَ اللَّهِ أعضاءً، آمنوا ببعضٍ، وكَفَروا ببعض؛ وقال نحْوَه مجاهدٌ، وقالت فرقةٌ: المقتسمون: هم كفَّار قريشٍ جعلوا القرآن سِحْراً وشِعْراً وَكَهَانة، وجعلوه أعضاءً بهذا التقسيم، وقالت فرقة: {عِضِينَ}: جمعُ عضةَ، وهي اسم للسحْرِ خاصَّة بلغةِ قريشٍ؛ وقالَه عكرمة.* ت *: وقال الواحديُّ: كما أنزلنا عذاباً على المقتسمين الذينَ اقتسموا طُرُقَ مكَّة يصُدُّون الناسَ عن الإِيمان. انتهى من مختصره..تفسير الآيات (92- 99): {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}وقوله سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ...} الآية: ضميرٌ عامٌّ، ووعيدٌ محضٌ، يأخذ كلُّ أحد منه بحَسَب جُرْمه وعِصْيانه، فالكافرُ يسأل عن التوحيدِ والرسالةِ، وعن كُفْره وقَصْدِهِ به، والمؤمنُ العاصِي يُسْأل عَنْ تضْييعه، وكلُّ مكلَّف عما كُلِّف القيامَ به؛ وفي هذا المعنى أحاديثُ، قال ابن عباس في هذه الآية يقال لهم: لِمَ عَمِلْتُمْ كذا وكذا، قال: وقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39] معناه: لا يقال له: مَاذَا أذنَبْتَ، لأَنَّ اللَّه تعالى أعلم بذنبه منه، وقوله سبحانه: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ}: اصدع: معناه: أنْفِذْ، وصرِّح بما بُعِثْتَ به.وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين}: من آيات المهادَنَةِ التي نَسَخَتْها آية السَّيْف؛ قاله ابن عباس، ثم أعلمه اللَّه تعالَى بأنه قد كَفَاه المُسْتهزئين به مِنْ كُفَّار مَكَّة ببوائِقَ أصابَتْهم من اللَّه تعالى.قال ابن إسحاق وغيره: وهُمُ الذين قُذِفُوا في قَلِيبِ بَدْرٍ؛ كأبِي جَهْل وغيره. انتهى.وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}: آية تأنيس للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، و{اليقين}؛ هنا: الموتُ؛ قاله ابن عمر وجماعةٌ، قال الداووديُّ: وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قَالَ: «مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ المَالَ، وأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنْ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، واعبد رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِين» انتهى، وباقي الآية بيِّن، وصلَّى اللَّه على سيِّدنا محمَّد وعلَى آله وصَحْبِهِ وسلَّم تسليماً.
|